هجمات سلاسل التوريد: التهديد الصامت في العالم الرقمي

آرام حسينو - Aram Hassino - هجمات سلاسل التوريد - Supply Chain Attacks


في العصر الرقمي المتسارع، أصبحت الهجمات السيبرانية تهديداً متزايداً للشركات والمؤسسات وحتى الدول و من بين هذه التهديدات، برزت هجمات سلاسل التوريد كواحدة من أكثر الاستراتيجيات تعقيداً وخطورة. هذا النوع من الهجمات لا يستهدف الضحية بشكل مباشر، بل يستغل العلاقات بين الضحية وشركائها التجاريين أو التقنيين لتحقيق اختراق غير متوقع.


ما هي سلاسل التوريد؟
سلاسل التوريد هي الشبكات المعقدة التي تربط بين الشركات والموردين والشركاء التجاريين لتوفير المنتجات أو الخدمات التي تحتاجها الشركات لتشغيل أعمالها. تتكون هذه السلاسل من عدة مراحل مترابطة، تشمل الحصول على المواد الخام و التصنيع و التوزيع والتسليم, كل مرحلة من هذه المراحل تعتمد على مرحلة أخرى لإتمام عملية الإنتاج أو توفير الخدمة بنجاح.

على سبيل المثال، عندما تقوم شركة بإنتاج هاتف ذكي، تعتمد هذه الشركة على عدد من الموردين الخارجيين لتوفير المكونات مثل الشاشات و المعالجات، والكاميرات , ثم تقوم الشركة بتجميع هذه المكونات في مصنعها الخاص, بعد ذلك، يتم توزيع المنتج النهائي على التجار أو العملاء عبر شبكة من الشركاء اللوجستيين.
في هذه الحالة، كل مزود أو شريك في هذه العملية يُعتبر جزءا من سلسلة التوريد.

في المجال الرقمي مفهوم سلاسل التوريد يمتد إلى الشركات التي تقدم برمجيات أو خدمات تقنية للمؤسسات، مثل أنظمة إدارة الشبكات أو حلول الأمان الرقمي.
في هذه الحالة، تعتمد المؤسسات على الشركاء لتزويدها بالبرمجيات أو التحديثات الضرورية لتشغيل أنظمتها، مما يعني أن أي خلل أو اختراق لدى المورد يمكن أن يؤثر بشكل مباشر على المؤسسة بأكملها.

تعمل سلاسل التوريد على مبدأ الثقة المتبادلة، حيث تعتمد الشركات على شركائها لتزويدهم بالمنتجات والخدمات الآمنة والمضمونة. لكن هذه الثقة يمكن أن تُستغل من قبل المهاجمين، حيث يمكن لهجمات سلاسل التوريد استهداف الموردين أو الشركاء الأضعف للوصول إلى الشركات الكبرى من خلال نقاط ضعف غير متوقعة.


كيف تعمل هجمات سلاسل التوريد؟
هجمات سلاسل التوريد تعمل عن طريق استهداف العلاقات التجارية أو التقنية بين الشركات وشركائها الخارجيين بدلا من مهاجمتها مباشرة. تعتمد الشركات على مزودي خدمات أو منتجات خارجية لإدارة جوانب مهمة من عملياتها، مثل البرمجيات، الأجهزة و حتى الخدمات اللوجستية.
المهاجمون يستغلون هذه الثقة الموجودة بين الشركات وشركائها عن طريق اختراق المورد أو الشريك الذي يُعتبر جزءا من سلسلة التوريد.

بعد نجاحهم في اختراق أنظمة هذا الشريك، يقومون بحقن البرمجيات الخبيثة أو تعديل المنتجات التي سيتم إرسالها لاحقا إلى الشركة المستهدفة, عندما تستلم الشركة هذه المنتجات أو التحديثات “الموثوقة”، تقوم بتثبيتها على أنظمتها دون معرفة أن البرمجيات الخبيثة قد تم إدخالها .
هذا يسمح للمهاجمين بالتسلل إلى الأنظمة الداخلية للشركة المستهدفة دون الحاجة لمهاجمتها بشكل مباشر مما يجعل الهجوم أكثر تعقيدا وأصعب في الكشف.

بعبارة أخرى، هجمات سلاسل التوريد تستغل الاعتماد المتبادل بين الشركات والموردين لاختراق الهدف بطرق ملتوية يصعب اكتشافها، وغالبا ما تُكتشف الهجمات بعد وقوع الضرر.


لماذا تعتبر هجمات سلاسل التوريد خطيرة للغاية؟
هجمات سلاسل التوريد تعتبر خطيرة للغاية لأنها تستغل أحد أعقد وأضعف نقاط الأنظمة الأمنية في العالم الرقمي: العلاقات التجارية والتقنية المعتمدة على الثقة بين الشركات وشركائها ومورديها, هذه الهجمات تمنح المهاجمين القدرة على التسلل إلى أنظمة الشركات بطريقة ملتوية يصعب اكتشافها لأنها تعتمد على نقاط ضعف خارجية في شركاء أو مزودي خدمات بدلا من مهاجمة الشركة بشكل مباشر.
هنا بعض العوامل التي توضح لماذا تُعد هذه الهجمات خطيرة بشكل خاص:

1.استهداف البنية التحتية الحيوية
في كثير من الأحيان، هجمات سلاسل التوريد, تستهدف البنية التحتية الحيوية, مثل الأنظمة الحكومية، المستشفيات، شبكات الطاقة أو المؤسسات المالية. عندما يتمكن المهاجمون من الوصول إلى هذه الأنظمة من خلال الموردين أو الشركاء التقنيين، فإنهم يمكن أن يتسببوا في أضرار كبيرة للأنظمة الحيوية على نطاق وطني أو عالمي.
مما يزيد من خطورة الهجوم وتأثيره على المجتمع ككل.

2.صعوبة اكتشافها
أحد أكبر أسباب خطورة هجمات سلاسل التوريد هو القدرة على التسلل ببطء وخفاء , عندما تعتمد شركة على مزود خارجي لتزويدها ببرامج أو مكونات معينة، فإنها تثق في أن هذا المزود يقدم خدمات أو منتجات آمنة.
المهاجمون يستغلون هذه الثقة لإدخال برمجيات خبيثة أو تغييرات ضارة في منتجات أو تحديثات تأتي من مورد موثوق.
هذا يعني أن الهجوم قد يستمر لشهور أو حتى سنوات قبل اكتشافه، مما يمنح المهاجمين وقتا طويلا للتجسس أو سرقة البيانات أو تنفيذ هجمات لاحقة.

3.التأثير واسع النطاق
هجمات سلاسل التوريد لا تؤثر فقط على شركة واحدة، بل يمكن أن تؤثر على شبكة كاملة من الشركات المرتبطة بمورد معين.
فعلى سبيل المثال، إذا تم اختراق مزود برمجيات يستخدمه عدد كبير من الشركات، فإن البرمجيات الخبيثة يمكن أن تنتشر إلى آلاف الأنظمة في وقت قصير، مما يضاعف الأضرار.
تأثير الهجوم يمكن أن يكون عالميا نظرا لأن الشركات متعددة الجنسيات غالبا ما تعتمد على نفس الموردين.

4.استهداف الموردين الضعفاء
غالبا ما تكون الشركات الكبيرة تمتلك إجراءات أمنية معقدة وصعبة الاختراق.
لكن الموردين والشركاء الأصغر قد لا يملكون نفس مستوى الأمان, المهاجمون يدركون أن مهاجمة الموردين الأضعف هي طريقة فعالة للوصول إلى الشركات الكبرى.
على سبيل المثال، يمكن لمهاجم أن يخترق موردا صغيرا يقدم برامج للشركات الكبرى، وحينما تقوم تلك الشركات الكبرى بتحديث برمجياتها من هذا المورد، يدخل المهاجم إلى أنظمتها بسهولة.

5.الهجوم من داخل الأنظمة
بمجرد أن يقوم المهاجمون بالوصول إلى الشركة المستهدفة من خلال سلسلة التوريد، فإنهم يكونون في موقع مثالي داخل الأنظمة نفسها. هذا يعني أن لديهم مستوى عالٍ من الوصول والقدرة على التجسس أو تعطيل الأنظمة من الداخل، وهو ما يجعل الهجوم أكثر خطورة من الهجمات التقليدية التي تأتي من خارج النظام.
بإمكان المهاجمين تنفيذ أوامر أو استغلال الثغرات بدون أن يثيروا الشبهات لفترة طويلة.

6.تعدد الأهداف
هجمات سلاسل التوريد تعطي المهاجمين فرصة للوصول إلى أهداف متعددة عبر هجوم واحد, بدلا من استهداف شركة واحدة فقط.
يمكن أن يستهدف المهاجم موردا أو برمجية تستخدمها عدة شركات في صناعات أو قطاعات مختلفة , هذا يجعل الهجوم أكثر فعالية من حيث الجهد والنتائج، حيث يمكن للمهاجمين التأثير على مئات أو آلاف الشركات من خلال إصابة مزود واحد فقط.

7.التبعات المالية الكبيرة
التبعات المالية لهذه الهجمات يمكن أن تكون مدمرة, الشركات قد تواجه تكاليف ضخمة في محاولة احتواء الهجوم، تنظيف أنظمتها، وتحسين أمانها بعد الحادث.
إضافة إلى ذلك، فقدان الثقة من العملاء والشركاء التجاريين قد يؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة في الإيرادات, وقد تمتد التبعات إلى عقوبات قانونية إذا تم اكتشاف أن الشركة لم تقم بإجراءات كافية لحماية بيانات العملاء.



هجمات سلاسل التوريد أصبحت أحد أكثر الأدوات استخداما في الهجمات السيبرانية الحديثة، وقد أثرت على شركات وحكومات حول العالم. فيما يلي بعض الأمثلة البارزة عن هذه الهجمات:

1. هجوم SolarWinds (2020)
يُعد هجوم “SolarWinds” واحدا من أكبر هجمات سلاسل التوريد في التاريخ.
تم اختراق شركة SolarWinds، وهي شركة تقدم برامج إدارة الشبكات , المهاجمون قاموا بزرع برمجيات خبيثة في تحديثات أحد منتجاتها الرئيسية “Orion”، وهو برنامج يُستخدم لمراقبة وإدارة شبكات الكمبيوتر, عند تحديث هذا البرنامج، تم تثبيت البرمجيات الخبيثة في آلاف المؤسسات، بما في ذلك وكالات حكومية وشركات خاصة في جميع أنحاء العالم.
المهاجمون تمكنوا من الوصول إلى أنظمة حساسة لأشهر قبل اكتشاف الهجوم.

2. هجوم NotPetya (2017)
هجوم NotPetya هو هجوم سيبراني مدمر انتشر بسرعة في جميع أنحاء العالم.
بدأ الهجوم من خلال استهداف شركة أوكرانية تقدم برنامج محاسبة. عندما تم تحديث البرنامج، تم زرع برمجية خبيثة في التحديث الذي أصاب الأنظمة بالشلل.
انتشرت هذه البرمجية الخبيثة بسرعة عبر سلاسل التوريد، مما تسبب في خسائر مالية ضخمة لمئات الشركات حول العالم، مثل “Maersk” و”Merck”.

3. هجوم Target (2013)
في عام 2013، تعرضت سلسلة المتاجر الأمريكية “Target” لاختراق أدى إلى سرقة بيانات ملايين العملاء، بما في ذلك بيانات بطاقات الائتمان.
المهاجمون استغلوا ثغرة في أحد مزودي الخدمات الذي كان مسؤولا عن أنظمة التدفئة والتبريد في متاجر Target.
من خلال هذا الاختراق البسيط في سلسلة التوريد، تمكن المهاجمون من الوصول إلى شبكة Target الداخلية وسرقة البيانات الحساسة.

4. هجوم ASUS Live Update (2019)
في عام 2019، تم استهداف شركة ASUS من خلال هجوم سلاسل التوريد.
المهاجمون تمكنوا من اختراق خوادم تحديث البرامج الخاصة بشركة ASUS وزرعوا برمجيات خبيثة في أداة التحديث “ASUS Live Update”. عندما قام المستخدمون بتحديث برامجهم، تم تثبيت البرمجيات الخبيثة على ملايين الأجهزة حول العالم، مما سمح للمهاجمين بالوصول إلى الأنظمة المستهدفة.

5. هجوم CCleaner (2017)
برنامج CCleaner، وهو برنامج شائع يستخدم لتنظيف وتحسين أداء الحواسيب، تم اختراقه في عام 2017.
المهاجمون استغلوا شركة Avast، المطورة للبرنامج، وزرعوا برمجيات خبيثة في النسخة الرسمية من البرنامج.
عندما قام المستخدمون بتحميل وتحديث CCleaner، تم إصابة أنظمتهم بالبرمجيات الخبيثة.
التأثير كان كبيرا لأن البرنامج كان يُستخدم على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.

6. هجوم ShadowPad (2017)
هجوم ShadowPad استهدف العديد من الشركات والمؤسسات عن طريق إصابة برنامج إدارة قواعد البيانات الشهير “NetSarang” ببرمجيات خبيثة.
المهاجمون استغلوا هذا البرنامج الموثوق به والذي يُستخدم على نطاق واسع في إدارة الأنظمة والشبكات في المؤسسات الكبيرة. بعد تحديث البرنامج، تم تثبيت البرمجيات الخبيثة في الأنظمة المصابة، مما أعطى المهاجمين القدرة على التحكم عن بُعد في هذه الأنظمة.


7. هجمات سلاسل التوريد في الأحداث الأخيرة بلبنان
في الأحداث الأخيرة التي شهدتها لبنان، تكررت الإشارات إلى هجمات سلاسل التوريد كأحد الأدوات التي استُخدمت لتحقيق أهداف معينة.
تشير التقارير إلى أن هذه الهجمات قد لعبت دورا في تلك الأحداث عبر استغلال نقاط ضعف في البنية التحتية التكنولوجية أو الخدمات التي تقدمها شركات خارجية.


كيف يمكن التصدي لهجمات سلاسل التوريد؟
مع تزايد هذه الهجمات، أصبحت الحاجة إلى تعزيز الأمان في سلاسل التوريد أمرا ضروريا.
هناك عدة استراتيجيات يمكن اتباعها للحد من مخاطر هذه الهجمات:

1. التدقيق الأمني للشركاء: يجب على المؤسسات التأكد من أن الموردين والشركاء الذين يتعاملون معهم يلتزمون بأعلى معايير الأمان السيبراني.

2. تحديث الأنظمة بانتظام: يجب التأكد من أن جميع البرمجيات والأجهزة يتم تحديثها باستمرار باستخدام أحدث التصحيحات الأمنية.

3. تطبيق استراتيجيات كشف التهديدات: من المهم استخدام أدوات كشف التهديدات والاختراقات التي يمكن أن تساعد في تحديد الهجمات المحتملة قبل أن تتسبب في أضرار كبيرة.

4. التشفير والمراقبة المستمرة: يجب تأمين البيانات المهمة وضمان مراقبة مستمرة لأي نشاط غير طبيعي داخل الشبكات.

الخلاصة
تُعد هجمات سلاسل التوريد من أخطر الأسلحة في الحروب السيبرانية الحديثة.
هذه الهجمات تتميز بالتخفي والقدرة على التسلل عبر نقاط ضعف غير متوقعة في سلاسل التوريد التي تعتمد عليها الشركات والمؤسسات.
وفي ظل الأحداث الأخيرة التي شهدتها لبنان، زاد الحديث عن هذا النوع من الهجمات، مما يبرز الحاجة إلى تعزيز الدفاعات السيبرانية على كافة المستويات لضمان حماية الأنظمة الحساسة.

من المهم أن تدرك المؤسسات أن التهديدات قد لا تأتي دائما من مصادر مباشرة، بل يمكن أن تكون مختبئة في العلاقات التجارية والتكنولوجية التي تربطها بالآخرين.

Related posts

Leave a Comment